من القصص التي يجب التحدث عنها في مجتمعاتنا في أيامنا هذه، نجد القصص الإنسانية التي تنشا عن العلاقات بين أفراد الأسرة و المجتمع. و هذه قصة مستلهمة تحكي عن معاناة إحدى الشخصيات الإنسانية وتلقي الضوء على مجموعة من الخصائص التي تكون سببا في فشل مؤسسة الزواج.
عتاب بلا عتاب
لعلني كنت أحبك و أنا لا أدري، هل كان ضروري أن تموت حتى أكتشف
هذا، يبتلع المرء مرارة الكلام و لا
يستطيع أن يبتلع مرارة الفراق. وهل كان الفراق إلا محطة أتأكد فيها من حبي لك و
أريد أن أستعيد ساعة من زمن لأعيش معك يوما فريدا أهنأ بقربك و ودك و أحمد الله على
جزيل العطايا و النعم.
حماقة
الإنسان لا حد لها، تجعله ينسى نعيمه و عند الحرمان يقدر الأشياء التي كانت بين
يديه فمتى يعقل هذا العقل ليعيش لحظته الحالية الجارية و يعيش حياة طبيعية.
غرور بلا سرور
جلست
تحملق أمام المرآة، تمسح عن وجنتيها دموعا أرهقتها من شدة الحزن. و هي تمسك صورة
زوجها لآخر لقاء كان بينهما و تتطلع على نظراته المبتسمة و كأن تلك النظرات إليها
كانت نظرة مودع. لم تستوعب حتى اللحظة أنه قد رحل فعلا بلا رجوع. لقد مضى على موته
ستة أشهر و مضى بذلك أربعة أشهر على حملها.
كان
من الصعب جدا عليها أن تستوعب الأمرين معا. زد على ذلك هذا الأمر الجديد الذي أصبح
يشغل بالها و تفكيرها ليل نهار. كانت هي المرأة المستغنية و الأنانية. لم يحدث
يوما أنها أشعرت زوجها بالرضا عنه أو الامتنان. كانت تظن أنه عقبة في شعورها
بالسعادة.
مرة في فترة زواجهما الأولى، خرجا كما يخرج
الأزواج لقضاء عطلة في مدينة كانت من بين المدن التي تحلم بزيارتها. و لطالما كانت
تسمع عن سحرها و إقبال السائحين إليها من كل مكان في العالم. علم زوجها بذلك فقرر أن
يلغي رحلته مع أصدقائه و التي وافقت نفس الفترة فأجل رغبته في الرحلة ليعجل بتحقيق
سعيها و مرادها ظنا منه أن ذلك قد يسعدها و قد يزيل تكاميش التذمر التي كانت مرسومةعلى
وجهها.
لم يخبرها بالسفر إلا بعدما حجز الفندق و التذاكر و أحسن تخطيط و إعداد كل شيء . و جاء ليخبرها أنه قد حان الوقت ليرتاح من ضغط العمل و ليفسح المجال لهما أكثر حتى يستطيع أن يتفرغ لفهمها و يقرب الهوة التي بدأت تظهر جلية بينهما أو بالأحرى الهوة التي هي خلقتها و تخلقها دائما لتشعره أنه ليس كافيا.
نعم، فبالنسبة لها أن
يختارها من بين باقي الفتيات زوجة و أما لأولاده و أن يمنحها حياة كريمة طيبة و أن
يبذل ما في وسعه لإسعادها لم يكن كل ذلك كافيا بالنسبة لها.
و كانت تحاول دائما أن توصل له أنه ما يزال عليه أن يبذل جهدا أكثر. حتى أقاربه المقربين أمه و إخوته أخذت من وقتهم و جعلته حقا مكتسبا لها. في حين هو لم يكن ير الأمر كذلك. و كانت مشاعره العفوية تقول له أنها مجرد مسألة وقت، و أن أمه لا شك ستكون سعيدة إذا علمت أن ابنها سعيد مع زوجته.
ضبابية الإحساس و الشعور
مضت الأيام و مر على زواجهما السنتين.
والزوجة لم تتغير و لم تنقص متطلباتها بل
زادت و أصبحت بعيدة الإمكان. فبعد أن كانت تنحصر في ماديات و كماليات. أصبحت من
نوع آخر لا يمكن تحمله أو إطاقته. لم تعد تعجبها الحياة في تلك المدينة التي فيها مقر عمله.
و
هذا كان من الأمور التي وضعت حبه لها و حياته العملية على المحك. فهي بهذا تغامر
بل تقامر بمسألة مصيرية قد لا تكون في صالحهما بل على العكس تماما فبعد أن استقر
هو في عمله و نال ترقية و مكانة مرموقة بعد مشقة سنين متتالية، ها هي تأتي
بأفكارها الجنونية لتدمر كل ما صنعه لأجلهما معا.
كان
منهمكا في إنجاز مهمته في العمل كالمعتاد. و حين أوشك على إتمامها، فتحت عليه
الباب بقوة و قطعت تركيزه قائلة أريد أن أكلمك ضروري الآن. نظر إليها باندهاش و
قال ربع ساعة. ربع ساعة و أخلص ما في يدي ثم نتحدث.
أعادت إغلاق الباب بتأفف و صارت تتمشى في البهو و هي تطبق يديها في بعضهما البعض محدثة بذلك صوتا مزعجا. تبدأ من أول الدهليز حتى آخره و تعود و هي تضرب الأرض بكعبها لتعبر عن مدى قلقها و على عدم قدرتها على الصبر و الانتظار.
ثم رجعت عنده في غرفته
و قالت لا أنا أريد أن نتحدث الآن. فالأمر مستعجل. لم يرد عليها و تابع في عمله
لأنه كان عليه إتمامه و إبلاغ مديره بذلك في الوقت المحدد.
وعي بالذات و تقديرها
بقي في مكانه مركزا حينا و يفصل أحيانا، فقد
باتت أفكار غريبة تشوش ذهنه و تضيع عليه تركيزه. صار يحدث نفسه و يقول ماذا هناك،
ما هي القصة الجديدة التي ستأتي بها الآن. هذه الانسانة لا تتعب، لا تمل من افتعال
المشاكل و اختلاق الأحداث. كم سيلزمني من الصبر لأكون كافيا بالنسبة إليها. هل هذا
معقول أيمكن أن تكون كل النساء هكذا بهذه الحدة و التسلط و الأنانية..
كلما
فكرت في راحتها و سعيت لتحقيق ذلك أجازى بالنقد و اللئامة منها. إلى متى سأظل أمشي
الأمر و أنا لست مرتاحا. متى آخر مرة شعرت فيها معها بالاكتفاء و الرضا. متى كانت
آخر كلمة شكر قالتها لي أو حتى يوما أو عشية أو ساعة من وقتها خصصتها لي وحدي أو
حتى فكرت أن تفاجئني بتقديم شيء لي يسعدني و يدخل علي القليل من الشعور بالتقدير
لكل ما أقدمه.
توقفت
حشرجة في حلقه و شعر بالاختناق لما لم يجد ما يبرر به قيمته و مكانته بالنسبة
إليها. وجد نفسه لأول مرة يصارح نفسه و يحملها المسؤولية كيف كان معطاء بلا حدود و
كيف كانت سيئة معه في الردود. ذهب إلى الباب أحكم إغلاقه و عاد يجلس و أخذ يسترجع
أحداثه وأيامه معها و كيف أنه اشتراها بل جعلها أهم من نفسه حيث كان يؤثر رغباتها
على رغباته.
و بالمقابل كان يعد المواقف التي كانت بجانبه
فلم يجد إلا ما يغيضه و يشعره بأنه لم يكن يعني لها إلا منفذا لطلبات طائشة متعطشة
لكل متطلبات الحياة و لفوق متطلباتها. هو يراها الآن بشكل أوضح من قبل هو يراها
على حقيقتها.
أنثى
لا تحمل من الكلمة إلا الاسم، و أما
الجمال، فلم يمتع ناظريه يوما من شدة ضموره خلف المساحيق و مختلف أدوات التجميل.
حاول أن يتذكر يوما وجهها بدون تجميل و لا مساحيق كيف يبدو فلم يجد. هو حتى لا
يعرفه. يرى دائما قالبا هندسيا مرسوما مشكلا منمقا عليه هالات من المحسنات ليبقى
براقا دائما.
حاول
جاهدا أن يجد شيئا فيها يشفع لها عنده فيستعيد بذلك كرامته أو يشعره كرجل له أثر
حقيقي عليها. لم يجد، لم يحزنه ذلك بقدر ما أحزنه أنه عزت عليه نفسه كيف أسرف
عليها بالاهتمام بزوجته و أهمل احتياجاته هو و لم يعد حتى بخفي حنين. بقي في غرفته
وقتا أكثر و قرر أن يمضي الليلة هناك. لم يحالفه الحظ في النوم إلا حين أوشك ان
يقبل الصباح و كيف ينام من نغصت عليه حياته و ضيقت عليه راحته مع شخص هو اختاره
ليكون شريك حياة بما تحمله الكلمة من معنى.
أما هي فقد قررت بعد طول انتظار ألا
تعيد طرح الموضوع عليه على اعتبار أنها غاضبة و مستاءة. توجهت إلى غرفتها و صارت
تتصفح شبكات التواصل لتعلم أخبار المشاهير و جديد الصيحات من الموضة.
في الصباح استيقظ فنظر إلى المنبه وجد نفسه قد تأخر عن موعده الهام في الشغل. نهض مسرعا يحاول أن يدرك ما تبقى من الوقت حتى يصل و لو متأخرا .
خرج من الغرفة لم يجدها، علم أنها خرجت مبكرة و تركت له ورقة على الطاولة. أخذها و لم يقرأها و هو ذاهب إلى مقر عمله ألقى نظرة عليها فوجدها تقول له :
ليكن في علمك أنني قررت أن هذا آخر شهر لي في هذا المنزل . هذه
المدينة لم أعد أطيق جوها و لا ناسها. في الشهر القادم سنغير المنزل و المدينة
أيضا. و بالنسبة لعملك. لا تقلق، يمكنك أن تأخذ مكان أخي الشاغر في الشركة
الفلانية. و إن كان العمل يختلف عن عملك، فيمكنك أن تعمل و تستمر في الدراسة حتى
تأخذ وضعا جيدا فيما بعد.
أصابه ما أصابه من الاستغراب و اندهش
من حجم الانانية و الوقاحة التي بلغت بها حتى تضعه في هذا الأمر في هذا الوقت
بالذات الذي هو في ضغط كبير، و بعد أن اجتاز أشواطا كثيرة في إنجاح عمله...
أوقف السيارة على جنب . أراد أن يتصل بها و يصرخ
في وجهها و يخرج ما بداخله من غضب. أخرج الهاتف و قبل أن يتصل وضعه. وقرر أن يتوقف
هنا. أخذ خطوة جدية مع نفسه ألا يقوم بأي أمر إن كان على حساب نفسه. و إن تطلب
الأمر الانفصال عنها بل أصبح يرى الحل الوحيد هو ذلك.
انطلق مسرعا إلى العمل كما لم ينطلق من قبل في
تحد لنفسه أولا ثم لها ثم لاي شيء قد يفقده ما يريده هو. في المنعطف لم ينتبه
لشاحنة قادمة من الجهة المقابلة اصطدم بها. فاضت روحه. توقفت حياته بعدما توقف
استنزافه لنفسه و طاقته. غادر في صمت و ارتاح من قيد الحياة.
نرجسية و غفلة
لم تكن الزوجة محبة بقدر ما كنت
مستغلة و مشتغلة على الجانب المضيء عند زوجها فعطائه اللامحدود لها كان مظلما له و
جلب له التعاسة أكثر. هي رغم بكائها و تحسرها على عدم تقدير حبه و فناء نفسه في
إسعادها. هي ربما تبكي لأنها فقدت محققا لأهدافها و منفذا لرغباتها و راعيا
لأنانيتها و المغذي و المثري لها .
حتى في لحظات الاعتراف بينها و بين نفسها، هي لا تعترف بالحقيقة و لا
تصدق أنها كانت جانية و تدعي أنها كانت محبة، لأن الحقيقة ستتعبها و توقظ ضميرها و
هذا سيجعلها تعاني. اكتفت بالبكاء على حظها السيء كما تقول، لأنها لم يسعفها لتنال
كل مبتغاها.
ها هي تحمل في أحشائها قطعة الإنسان الذي كان
يمثل كل شيء جميل فكيف ستكون أما صالحة مناسبة له أو أن ضميرها سيبقى حكما عليها
شاهدا على ما اقترفته في حق زوجها و نظرة واحدة على ابنه ستذكرها دائما بالإحسان
الذي تلقته فكيف يكون جزاءها للإحسان في حق ولده.