- هذه قصة قصيرة من نسج الخيال لا يمنعها أن تكون نسخة لواقع أحدهم حيث تختلف الأفكار و تتباين و يصعب معها تقبل الأخرين ما لم يكونوا موافقين لنا.
أحداث و حكايا حاولت أن أسلط فيها الضوء على الحقيقة المفقودة في كل شيء و أن لا تكون معرفتنا سطحية و محدودة لهاته الحياة، فالإنصاف يدعونا لنراها من كل الجوانب إن شئنا أن نكون واقعيين أكثر. أتمنى أن تنال استحسان قارئها.
قصة قصيرة بين الحقيقة والخيال تعايش
- منذ صغري، كنت أرى أمي كلما أرادت أن تخرج من البيت، لفت وجهها بخرقة و تأففت مرتين قبل أن تحمل حقيبتها و تغلق الباب و تنطلق إلى شؤونها. و ما كانت شؤونها: إما في تسوق أو في لقاء و تجمع مع صويحباتها للحديث عن أحوال البعض من الناس. و كنت أجالسها عادة فأسمعها تشير إلى تلك و هذا و أقول في داخل نفسي لماذا، و حين عودتنا أشعر بالسعادة على وجه أمي و لسان حالها يقول قد حققت مرادا.
هكذا كانت جل أوقاتها و أوقاتي إذا صاحبتها، فإن مكثت في البيت كانت تصر على أن تشتكي من الحر صيفا، و شتاء تتقي الخروج حتى لا تبلل ثيابها المعتادة.
- ملابس أمي كانت لا تتجاوز جلبابا ضيقا يظهر مفاتنها إلا قليلا و يستر عيب سمنتها الزائدة. أمي لم تكن مثلي الأعلى و لكن كانت محط أسئلتي و نقطة إثارة حيرتي.
إذا غاب أبي إلى العمل تراها تتجمل في بيتها و تتطلع إلى المرآة و كنت ألاحظ من خلالها أنها معجبة جدا بنفسها فإذا عاد أبي من العمل وجدها منزوية مقطبة حاجبيها عبوسة بثياب عادية.
كنت أرى فيها ازدواجية الشخصية. و بما أنني كنت أرافقها أكثر من أبي فقد تسببت سلوكاتها و تصرفاتها في التأثير على حياتي من حيث فهمي للعاطفة و لقيمة الأشياء من حولي.
كانت تحدث صويحباتها بجرأة و قوة و تدافع عن أرائها دائما و لكن عندما نكون وحدنا كانت مختلفة تماما، و لمست في كلامها عكس ما كانت تزعمه و تدافع عنه من أفكار.
- أمي لم أستطع أن أقول عنها ولو بيني وبين نفسي أنها مريضة أو بها اضطراب لأن حالة الحزن عندها كانت تتشكل و تختفي بسرعة، و كأنها هي من تتحكم في أحاسيسها أو تصطنعها. لطالما كانت تعير والدي يأنه غير طموح و أنه شخص قديم الفكر و الذوق و لا يصلح لشيء إلا للشقاء.
كانت ردة فعل أبي غريبة جدا حيث كان يكتفي بالنظر إليها محملقا بقوة و تركيز في عينيها ثم يغض طرفه و لا يحرك ساكنا و لا يتفوه بكلمة.
كم كنت أحزن لحاله و أرى أنه في حالة ضعف لا حول له في حضرة لسانها السليط. لكن، حينما أنفرد به دون وجود أمي أراه بطلا من الأبطال التي يتحدثون عنها في الروايات.
لا أكذب إن قلت أنني كنت أتمنى أن لا ينتهي الحوار بيننا فدائما يكون ممتعا و مشوقا و لطيفا و مثيرا للمتابعة. و كان حضور أمي ينغص كل شيء. هكذا مضت طفولتي بين أبي الذي يذكرني بالملاك و أمي التي فيها شيء من الشيطان و كنت أنا باختصار و عن غير وعي طفلا منشطرا بين هذا و ذاك .
*هوة بين الأم و ابنها
- كلنا يعلم أن تركيبة الإنسان في الأصل كذلك، فكل منا فيه نزعتين لكنني كنت مركبا و كأنني تراكمات من النفخات و النفحات. كبرت و أنا أحاول أن أجد تشخيصا لحالة أمي. و أن أجد لها مبررا كي أحبها لأنها أمي و مع أن كلامها لي لم يكن مقنعا كما كان الحال مع أبي، لأنه و على اعتقادي أن آراء أبي كانت توافق فطرتي و أجد سهولة في تصديقها، غير أمي التي كنت أرد عدم فهمي لها لصغر سني و لقصر في عقلي حتى بلغت السابعة عشر من عمري فبدأت تظهر لي الفروقات و اتسعت الهوة بين التصور الذي كان لدي عن أمي و عن ما أصبحت أعتقده عنها.
كانت صدمتي في يوم وافق يوم عاشوراء بعد حدوث خلاف في عائلة أبي التي كانت في زيارة لنا حيث تعرضت جدتي لسرقة مجوهراتها الثمينة فاحتار الجميع و بحثنا عنها في كل مكان فلم نجد لها أثرا.
بعد أن تناسى الأمر بأشهر ثلاث، رأيت على تصرفات أمي تغيرات كبيرة و أفعالا غريبة. كانت كل سبت تخرج باكرا و لا تأخذني معها و لا تعود حتى تقترب الشمس من المغيب. كان والدي يسألها فتجيبه أنها تلتقي في إحدى الجمعيات النسوية و تشارك في الأنشطة اليدوية. لم يصدقها أبي و لم يكذبها و لكنه وجدها فرصة مناسبة للتخلص منها ولو لفترة .
بقي الحال كذلك حتى جاء اليوم الذي أصعق فيه. كانت هناك عقيقة ابنة عمتي و كنا مدعوين لحضورها. كنت أبحث عن عباءتي القرمزية المحببة إلى قلبي و بحثت و بحثت فلم أجدها و بعدما استيأست قررت أن أغير رأيي و ألبس البزة التي أهداها لي خالي في حفلة نجاحي.
ذهبت لأسحبها من خزانة الملابس فوجدت بداخل جيبها ورقة مكتوب عليها اسم امباركة و بجانبها طلاسم و رموز. لم أفهم ذلك فأخذتها ذاهبا بها إلى أمي كي أستفسر عن ماهيتها فاستوقفني والدي و سألني ماذا أريد فقلت له أمي. قال لي ليست هنا فأطلعته على ما في يدي فاصفرّ وجهه ثم اسودّ و قال لي أين وجدتها فأخبرته بالقصة.
أخذ مني قطعة الورق و خرج مسرعا. رأيته يقَلّبها فحاولت أن أفهم فإذا هو مكتوب على ظهرها عنوان العرافة أم السعد. من حينها لم أر وجه أبي فرحا أبدا. جنى الليل و اجتمعنا حول المائدة ثم افترقنا و أخذ كل منا مضجعه إلا أنا عادى النوم جفناي و بقيت أخمن في سر تلك الورقة .
- بعدما انتصف الليل قمت أنير غرفتي فتراءى لي نورا في البهو وعلمت أن أبي هو كذلك لم ينم. توجهت إليه في تسلل و همست في أذنه. أبي هل لك أن تعطيني القليل من وقتك فأنا لا أستطيع النوم، فأشار إلي بيده كي أنتظره في المطبخ.
أتى أبي فالتمست منه أن يشرح لي القصة لأفهم. فقال لي قبل أن أجيبك يا بني، يجب عليك أن تعطيني عهدا أنك بعد سماعك القصة أن لا تتذمر و لا تلم نفسك أبدا، و أن تعلم يقينا أنك لا دخل لك فيها فلا تُحَمّل نفسك ما لا تطيق.
كان أبي يعلم أني رهيف الحس و حساس جدا. سكتت قليلا قبل أن أومئ برأسي و أقول له نعم أوافق. كنت فقط أريد أن أعلم ماذا يجري. قال لي أبي أنه منذ أن حملت أمي بي اكتشف أنها غير أمينة و أنه لم يشكّ يوما في أنها هي من سرقت جدتي و لكنه فضل الصمت لمصلحتي حتى لا أُشَتَّت و أتربى بعيدا عن أبي.
نظرت إليه بغرابة و قلت: ولماذا بقيت صابرا حتى الساعة يا أبي. لماذا لم تفضحها أو تخبرهم بجريمة أمي. فرد علي: ما كنت لأخلق نزاعا يشتت العائلة. قلت له كيف، ألم تشفق لحال جدتي و هي تبكي و تعد من يوجده بجائزة ثمينة. فقال لي دعك الآن من كل هذا و افعل ما أوصيتك به، فأنت و أنا لسنا مسؤولين عن تصرفاتها. الأهم أن تنتبه لدراستك و أن لا تهتم بشيء آخر.
توجهت حزينا لفراشي أتخيل كيف أن أمي تستطيع أن تؤذي جدتي و لا تندم بعد ذلك مهما تقدم بها الوقت. بقيت أتخيل أنني لن أستطيع الافتخار بأمي أمام زملائي و لا حتى مع نفسي فشعرت بخيبة كبيرة تجرعتها بمرارة و شهقت كثيرا و بكيت كثيرا و تذكرت حديث أبي فقلت: ترى هل أستطيع أن أعيش سعيدا بعد كل هذا.
- مضت الأيام و أنا أحاول أن أتجنب التصادم مع أمي في الحديث، حتى هي لاحظت ذلك. و كانت تسألني عن سبب تغيري معها و لكنني كنت أقول لها أنها فقط ضغوطات الدراسة و انشغالاتها. تغيرت حياتي و صرت كتوما أكثر. أجلس وحدي، لا ألتقي بأصدقائي و علمت أنني بدأت أنضج و أواجه الحياة بمعنى الكلمة.
حين تألمت من أقرب الناس إلي. أدركت أنني ينتظرني مشوار صعب و أنها ليست إلا بداية لحياة مخيفة صادمة لابد فيها من المنغصات. كنت أشعر بالحيرة أحيانا و أحيانا بالشفقة تجاه أمي و أقول، لا بد أن تكون لها أسباب خاصة وراء تلك التصرفات، و أحيانا كنت أتمنى لو وُلِدتُ يتيما حتى لا أُصدَم هكذا. و كنت أشعر بالحب نحوها لأنها تظل أمي فكان يخالطني نوع من الندم و أنني أقاسمها الشر بحبي لها و هي كذلك.
كانت كل هاته المشاعر تجتاحني و تعذبني و أنا لا أستطيع أن أفعل شيئا إلا أن أسأل القدر، لماذا يكون قدري هكذا.؟ و تبقى أسئلتي مفتوحة لا جواب لها.
- مضت الأيام و السنين و صار عندي تصور مبهم عن وجودي و عن الزواج و عن المرأة بصفة عامة، و اختلطت عندي الأمور و المفاهيم بين ما تعلمته و ما يجب أن يكون و بين ما هو كائن و ما أنا أعيشه و أصارعه.استمر انطوائي على ذاتي مدة ليست بالهينة و بدأت أفقد لذة الاستمتاع بالحياة خصوصا أنني كنت في مرحلة الامتحانات للسنة الأخيرة من المرحلة الثانوية.
كنت أبحث عن مخرج لي من هذه الدوامات و التساؤلات فعزفت عن الجدية في هذه الحياة. صار النجاح و الفشل عندي سواء. و انطفأ بريق حماسي. و كنت أقضي جل وقتي بين سماع الموسيقى و التفرج على الأفلام و أحيانا كنت ألازم فراشي مدة أسبوع لا أغادره إلا للأكل و الشرب و الذهاب إلى الحمام.
سئمت هذا النمط و تسلل إلي الملل و لم أستطع الخروج من هذه القوقعة. كنت أسمع من حولي العديد من الانتقادات و أشكال التنمر و الإشفاق علي من كل الجهات و كنت لا أهتم و لا يؤلمني ما أسمع. صنعت لي عالما وحيدا بعيدا عن أسرتي و بيئتي و عجزت عن التغيير مهما حاولت .
رأيت في هذه التجربة مرارة العيش و طعم الخذلان و معنى أن تكون إنسانا بلا إنسان. استمرت حالتي المرضية سنة كاملة تجلت فيها تجاعيد وجهي و شحب لون بشرتي و خارت عيناي حتى من يعرفني لم يعد يعرفني.
*حقائق بين الموت و الحياة
- في صبيحة يوم الأربعاء استيقظت على خبر وفاة جدتي، لم أحزن كبقية أسرتي، لا أدري هل من قسوة قلبي أم لأنني استنفذت طاقة الحزن أم لأني لم تعد تهمني الاحداث كيفما كانت. في ظهيرة ذلك اليوم قررت أن أصحبهم لتشييع الجنازة، و مع أنني لم أكن في كامل وعيي إلا أنني جاهدت نفسي و حاولت أن أغير مكوثي و لو قليلا .
ذهبوا للمقبرة و كانت أول مرة أحضر فيها مراسم الدفن. رأيت حفرة صغيرة و ألواحا خشبية و أحجارا و ماء. و أناسا يقرأون و يدعون و الآخرون يؤمنون. و بعد أن خلصوا، وضعوا جثة جدتي في الحفرة وواروا التراب عليها و مكثوا قليلا ثم وزعوا كسر الخبز و التين على الناس و انصرفوا.
بقيت أنا هناك أتأمل و أحدث نفسي و أقول، أين ذهبت جدتي، ما بال هاته الحفرة ضيقة جدا، و لم انصرف الجميع و تركوها وحيدة؟ ألم تكن عزيزة علي قلوبهم، ما بالهم يهرعون و يغادروا مسرعين كأنهم جراد منتشر.
زاحمتني الأسئلة و انضافت إلى سابقتها رغم بديهية الموت و حقيقته لكنني وجدتني حبيسها و لا أجد جوابا كافيا. عندما أوشكت الشمس على الغروب عدت لبيتي خالي الهمم عالي الهموم كأنني أحمل الدنيا على ظهري . عدت و أدرت مفتاح الباب فإذا بي أجد الحديث في البيت عن الموت، و أن القبر أول منازل الآخرة .
كان قريب لنا يدير الحديث- رجل متقدم في السن- يتحدث عن السؤال الذي يلقاه الميت و بضمة القبر ووو. نظرت إليه باهتمام و بدأ يخوفنا من ذلك اليوم فوجدتني أنظر إليه بازدراء بينما كانت أمي ممددة على الأرض لا تتكلم.
دخلت غرفتي البئيسة و قلت في نفسي لم لم أكن أنا من دفن هناك و تخلص من هذا القرف. حاولت النوم، لم أستطع، كانت صورة القبر ضيقا مفتوحا تتمثل لي كلما أغلقت عيناي. قررت أن أضحي بهذه الليلة أيضا فليس لدي ما أخسره. ذهبت للبهو و ألقيت نظرة على مكتبة والدي فأتت عيني على كتاب عنوانه حياة البرزخ. أخذته دون انتباه من الجميع و قرأت أول صفحة فيه و آخر صفحة.
فهممت لأرجعه فإذا بي أرمق عبارة رب أقم الساعة. عدت للخلف أقرأ ما قبله فإذا هو حديث للرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن حال المؤمن بعد الموت فشدني الحديث و بدأت قراءة الكتاب. بقيت ماكثا عليه و كلما أردت أن أضعه أجدني في جملة شيقة لأحوال الغيب. فوجدت مع كل ترهيب ترغيب .
كلما أردت الهروب من الحديث عن الموت وجدت ما يشدني للحديث عن الحياة و قرأته حتى أتممته. و شعرت بانشراح في صدري لم أشعره من قبل و بدت السكينة على محياي و أحسست بأني أمسك بنور لا أراه فتهلل وجهي. و تنفست الصعداء . و أغلقت الكتاب و وضعته فوق رأسي. و خرجت. نظرت إلى الساعة، كان الفجر و شيكا. قمت أغتسل و أتوضأ و انتظرت آذان الفجر فصليت و عدت إلى مكاني هادئ البال. و خضت في نوم عميق.
- في الصباح الموالي، استيقظت مختلفا عن باقي الأيام. بينما الجو كئيب يعمه الحزن، كنت أنا في انسجام مع ذاتي . و علمت أن جدتي رحلت، لا نعلم إلى أين، لكنني علمت أنها لقت مصيرها بعد أن أدت رسالتها و ربت أجيالا و رجالا و ماتت و هي دائما حامدة شاكرة.
من هذا اليوم، قررت أن لا أقتنع بسرعة بأي كلام و لا تؤثر بي المواقف إلا بعد أن أتدبر و أتحقق، و خلصت إلى أن جدتي كان يجب أن تموت في هذا اليوم لأحيا أنا، لا أقصد بالمعنى السلبي لذلك و إنما قصدي هو قضاء و قدر. و أن وعيي بنفسي كان خير قدر لأعيش على سبب و أسباب.
تقبل و تفهم
- أصبحت بلطف الله أحب أمي على ضلالها و صرت أكره ما تفعله و حاولت جاهدا أن لا أظهر لها ذلك. بدأت شيئا فشيئا أحاول أن أفهم نفسي و غيري على ضعف مني، أقدر ضعف غيري فليس الجميع صالح و لا أنا. و ليس الجميع طالح. صرت أنهل من العلم كلما تسنى لي ذاك و تغيرت نظرتي لنفسي و لأمي و للحياة من حولي.
فهمت كيف أنني مطالب لأتعايش مع أمي كيفما كانت، و حبي لها يدعوني لأعمل على مساعدتها لتفهم نفسها أولا فهي لها ظروف أخرى لا أعلمها، و إن علمتها لا أحاسبها . عملت جاهدا أن أكون الفتى ذو عقل الرجال و الابن البار فيما لا يضر عسى أن تنال مني الحسنى و تحسن العقبى.
أنا لم أختر أمي و لا أنا اخترت نمط حياتي، لكن الجميل أنني أدركت أن كل الأشياء تحدث بقدر و أن الخيرة ليس فيما قد أعتقده، قد يكون عكس ذلك دون أن أدري. تحولت بعد دأب على المثابرة و المواصلة. كل صباح، صرت أفتتحه بقراءة سورة الفاتحة، أتدبرها و أحاول أن أفهم معناها لأنعم بالهداية أكثر و أكثر.
بدأت أنوع نشاطاتي اليومية بين الدراسة و الرياضة و أخذت لي متنفسا في وقت مخصص كل يوم، فإذا ما شعرت بالإحباط و الحزن كنت أنهل من سيرة العظماء من مروا بأشد الأزمات، و استوقفتني قصة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم تأثيره في عمه رغم حبه الشديد له. فكنت أقول أين أنا من هذا و لماذا فأسترجع إلى الله و أرضى بقضائه. لست أرضى حبا و إنما إيثارا و إيمانا، فما يكون لي إلا ذلك فأحفظني من سبل الشيطان.
كن شمعة
- هكذا بقيت بين الألم و الأمل أزرع في غيري الأمل الذي ذقته في حسن الظن بربي و بالناس. فانتهت شكوكي و انقطعت مخاوفي إلى أجل غير مسمى. كبرت في اعتدال بين العلم و العمل و الفسحة بين الغدوة و الروحة. و الزلة و الأوبة و كنت أجد في كل عودة عهدا جديدا مع نفسي، أجدد به ما بلى و ألحق به ما فات ما دمت أعيش في كنف إله لا يسأم و لا يمل من عودتي بعد الشروذ، و استطعت بعد عمر طويل أن أنال استحسان أمي التي طالما كانت تنعتني بعديم الفائدة.
لقد احتارت في أمري و كيف أني صرت أتحملها رغم قساوتها معي. كان تفكيرها محدودا عن الحياة و عن الناس. و كان لها رأي واحد لا يقبل النقاش فإذا بها تجدني أعاملها بحب و أدعو لها فسُرّت لذلك لكنها لم تكن بيقين مثل ما أنعم الله علي. كانت تأخذ كل الأشياء بالتجربة لأن ذلك ما تعلمته من أهلها و لم تعتقد باحتمالية صحة الرأي الآخر. أنا أعذرها و لكن إذا فكرت في المستقبل عنها أتعب و تأخذني الظنون . و أعود بمنطقيتي و عقلانيتي أنني لا أملك إلا لحظتي و أما ما بعدها فلست أعلم أي منقلب أنقلب.
علمني والدي النسبية في كل شيء و تقبل الخلاف و أن ألتمس الخير في الغير قبل الشر. علمني والدي أن نور الشمس لا تحجبه الغيوم و إن غطته العواصف و البروق يلوح. و تعلمت أن أعيش كل يوم ليومي. فكفيت همي و انشغلت بعيبي و بقيت أدعو لأمي أن تستيقظ من غفلتها التي أردتها في الظلمات لتصلح ما فات. و عشت بواقعية لما سلمت أنني مجرد ضيف في هذه الحياة الدنيا.